فصل: تفسير الآيات (56- 58):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآيات (36- 38):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآياتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [36- 38].
{فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآياتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً} أي: مبتدع لم يسبق له نظير. أو تفتريه على الله بنسبته له، وأنت تعلمته من غيرك، فالافتراء بمعنى الاختلاق أو الكذب: {وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا} أي: السحر أو ادعاء النبوة، أو بأن للعالم إلهاً يرسل الرسل بالآيات: {فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} أي: كائناً في أيامهم. قال الشهاب: وهذا إما تعمد للكذب وعناد بإنكار النبوات، وإن كان عهد يوسف قريباً منهم. أو لأنهم لم يؤمنوا به أيضاً: {وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} قال المهايميّ: معناه: كفى دليلاً على كونها آيات، أنها خوارق ولم يسبق لها نظير. مع أن ما جئت به هدى. والساحر لا يدعو في العموم إلى هدى. فإن لم تعترفوا بكونه هدى، فربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده، ويعلم ذلك بالعاقبة، فإن الله يحسن عاقبة أهل الهدى لا محالة. لأنه يعلم من تكون له عاقبة الدار. وهي العاقبة المحمودة. والمراد بالدار: الدنيا. وعاقبتها وعقباها: أن يختم للعبد بالرحمة والرضوان. وتلقي الملائكة بالبشرى عند الموت. وهذه لا تكون للساحر إذا ادعى النبوة، لأنه ظالم، فلا يفلح بالعاقبة الحميدة كما قال: {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} أي: بالدار وإن وجدوا بعض مقاصدهم أولاً استدراجاً، فلا يفوزون بالعقبى الحميدة. وإنما غاية أمرهم انقطاع أثرهم وسوء ذكرهم. وقد حقق الله هذا الوعد فجعل عاقبة قوم موسى رفيعة. ونهاية أعدائه وضيعة: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} هذا حكاية لتمرده وعتوّه وطغيانه في تفوهه بتلك العظيمة. كما واجه موسى عليه السلام بها في قوله: {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [29]، وكما قال تعالى عنه: {فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [النازعات: 23- 26]، يعني أنه جمع قومه ونادى فيهم معلناً بذلك. فانتقم منه بما جعله عبرة لمن اعتبر: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ} أي: ناراً، فأتخذ منه آجرّاً.
قال الزمخشري: ولم يقل: اطبخ لي الآجرّ واتخذه، لأن هذه العبارة أحسن طباقاً لفصاحة القرآن وعلوّ طبقته، وأشبه بكلام الجبابرة. وهامان وزيره ومدبّر رعيته: {فَاجْعَلْ لِي} أي: من الآجرّ: {صَرْحاً} أي: قصراً رفيعاً إلى السماء: {لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} يعني العليّ الأعلى، تبارك وتعالى: {وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} أي: في دعواه الألوهية، والعلوّ لباري الأرض والسموات.

.تفسير الآيات (39- 43):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [39- 43].
{وَاسْتَكْبَرَ هُوَ} أي: بدعوى الألوهية لنفسه، ونفيها عن الله تعالى، وقصد الاطلاع إلى الله سبحانه، وادعاء العمل الكليّ لنفسه مع جهله بربه: {وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} أي: بل بالفساد وردّ الحق، والصدّ عن سبيل الله: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ} بضم الياء وفتحها قراءتان: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} أي: يلعنهم كل مؤمن يسمعهم: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} أي: من المطرودين، المبعدين: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ} أي: أنواراً للقلوب: {وَهُدىً} أي: إلى الاعتقادات الصحيحة ودلائلها: {وَرَحْمَةً} أي: بالإرشاد إلى العمل الصالح: {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أي: فيتعظون به ويهتدون بسببه.
ثم أشار تعالى إلى كون التنزيل وحياً من علاّم الغيوب، ببيان أنه ما فصل من هذه الأنباء لا يتسنى إلا بالمشاهدة أو التعلم، وكلاهما معلوم الانتفاء، فتحقق صدق الإيحاء. وذلك قوله سبحانه:

.تفسير الآيات (44- 46):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [44- 46].
{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} أي: الوادي الغربي الذي كوشف فيه موسى عن المناجاة: {إِذْ قَضَيْنَا} أي: قدرنا وأنهينا: {إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ} أي: أمر الإرسال والإنباء: {وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُوناً} أي: بين زمانك وزمان موسى: {فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} أي: أمد انقطاع الوحي، واندرست معالم الهدى، وعم الضلال والبغي والردى، فاقتضت رحمتنا إرسالك لنخرجهم من الظلمات إلى النور: {وَمَا كُنْتَ ثَاوِياً} أي: مقيماً: {فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} أي: لك، وموحين إليك تلك الآيات. أي: ما كان الإنباء بها إلا وحياً مصدره الرسالة: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} أي: وقت ندائنا موسى: {وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} أي: ولكن أرسلناك بالقرآن الناطق بما ذكر وبغيره، لرحمةٍ عظيمة كائنة منّا لك وللناس: {لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} أي: من نذير في زمان الفترة بينك وبين عيسى: {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أي: يتعظون بإنذارك.

.تفسير الآيات (47- 48):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} [47- 48].
{وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ} أي: عقوبة: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} أي: من الكفر والفساد: {فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي: بها. وجواب: {لَوْلاَ} الأولى محذوف، ثقة بدلالة الحال عليه. أي: ما أرسلناك. لكن قولهم هذا عند عقوبتهم محقق. ولذا أرسلناك قطعاً لمعاذيرهم.
قال الزمخشري: ولما كانت أكثر الأعمال تزاول بالأيدي، جعل كل عمل معبراُ عنه باجتراح الأيدي، وتقديم الأيدي، وإن كان من أعمال القلوب. وهذا من الاتساع في الكلام، وتصيير الأقل تابعاً للأكثر، وتغليب الأكثر على الأقل: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} أي: من قلب العصا حية، وفلق البحر، وغيرهما من الآيات. تعنتاً وعناداً، كما قالوا: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ} [هود: 12]، وما أشبه ذلك. وقوله: {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} رد عليهم، وإظهار لكون ما قالوه تعنتاً محضاً، لا طلباً لما يرشدهم إلى الحق. أي: أو لم يكفر أبناء جنسهم، ومَنْ مذهبهم مذهبهم، وعنادهم عنادهم وهم القبط، بما أوتي موسى من الكتاب: {قَالُوا} أي: في موسى وهارون عليهما السلام ساحران: {تَظَاهَرَا} أي: تعاونا. وقرئ: {سِحْرَانِ} أي: ذوا سحرين، أو جعلوهما سحرين مبالغة: {وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} ثم أشار تعالى إلى أن الآية العظمى للنبيّ صلوات الله عليه، هي الآيات النفسية العلمية، لا الكونية الآفاقية التي كانت لغيره، جرياً على سنة الارتقاء. فإن النوع الإنساني كان، لما جاء الإسلام قد استعد إلى معرفة الحق من الباطل بالبرهان، والتمييز بين الخير والشر بالدليل والحجة. وكان لابد له في هذا الطور من معلّم ومرشد، كما في الأطوار الأخرى، أرسل الله إليه رسولاً يهديه إلى طرق النظر والاستدلال، ويأمره بأن يرفض التقليد البحت والتسليم الأعمى. وأن لا يأخذ شيئاً إلا بدليل وبرهان، يوصل إلى العلم. فكانت عمدته صلى الله عليه وسلم في الاستدلال على نبوّته ورسالته نفسه الكريمة، ما جاء به من النور والهدى، كالطبيب الذي يستدل على إتقانه صناعة الطب، بما يبديه من العلم والعمل الناجح فيها. وقد بسط هذا في مواضعه. وهذا معنى قوله تعالى:

.تفسير الآيات (49- 55):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [49- 55].
{قُلْ} أي: لهؤلاء الجاحدين: قد مضى دور الخوارق التي تقترحونها، ونسخ تعالى من تلك الآيات بما أتى بخير منها، وهو آية الهداية التي تصلح بها قلوب العالمين. والذكرى التي تزع النفوس عن الشر، وتحملها على الخير. بحيث يظهر أثرها الحسن في المؤمنين، ويحق الشقاء على الجاحدين المعاندين. فإن يك هذا سحراً، ولديكم ما هو أهدى: {فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا} أي: من التوراة والقرآن: {أَتَّبِعْهُ} أي: ولا أعاندكم مثل ما تعاندونني: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أي: في أنهما سحران مختلقان. أو في أنه يمكن الإتيان بما هو أهدى منهما.
قال أبو السعود: ومثل هذا الشرط مما يأتي به من يدل بوضوح حجته وسنوح محجته. لأن الإتيان بما هو أهدى من الكتابين، أمر بيّن الاستحالة. فيوسع دائرة الكلام للتبكيت والإفحام. انتهى. أي: لا للشك والتردد.
قال الشهاب: وهذا جواب عما يقال أن عدم إتيانهم به معلوم. وهذا كما يقول المدّل: إن كنت صديقك القديم، فعاملني بالجهل. وكذا في إيراد كلمة إن مع امتناع صدقهم، نوع تهكم بهم: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ} أي: فلم يأتوا بذلك الكتاب، ولم يتابعوا الكتابين: {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} أي: الزائغة من غير برهان: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} الاستفهام إنكاري للنفي. أي: لا أحد أضل منه. كيف لا؟ وهو أظلم الظلمة. بتقديم هواه على هدى الله. كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} أي: الذين ظلموا أنفسهم بالانهماك في اتباع الهوى، والإعراض عن الآيات الهادية إلى الحق المبين.
قال الرازيّ: وهذا من أعظم الدلائل على فساد التقليد، وأنه لابد من الحجة والاستدلال. انتهى {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أي: أنزلنا عليهم القرآن متواصلاً، بعضه إثر بعض، وعداً ووعيداً، وقصصاً وعبراً، ومواعظ، حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة إرادة أن يتذكروا فيفلحوا. وقرئ {وصّلنا} بالتشديد والتخفيف: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ} أي: القرآن: {هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} وهم مؤمنو أهل الكتاب وأولياؤهم: {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ} أي: القرآن: {قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ} أي: من قبل نزوله: {مُسْلِمِينَ} أي: منقادين له، لما عندنا من المبشِّرات به. أو على دين الإسلام، وهو إخلاص الوجه له تعالى بدون شرك: {أُولَئِكَ} أي: الموصوفون بما ذكر من النعوت: {يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} يعني مرة على إيمانهم بكتابهم، ومرة على إيمانهم بالقرآن: {بِمَا صَبَرُوا} أي: بصبرهم وثباتهم على الإيمانيْن. أو على الإيمان بالقرآن قبل النزول وبعده. أو على أذى من نابذهم: {وَيَدْرَأُونَ} أي: يدفعون: {بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} أي: بالحكمة الطيبة، ما يسوؤهم: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} أي: للبؤساء والفقراء، وفي سبيل البرّ والخير، فراراً عن وصمة الشحّ، وتنبهاً لآفاته.
{وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ} أي: من الجهال. وهو كل ما حقه أن يلغى ويترك، من العبث وغيره: {أَعْرَضُوا عَنْهُ} أي: تكريماً للنفس عن ملابسة الأدنياء، وتشريفاً للسمع عن سقط باطلهم: {وَقَالُوا} أي: لهم: {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} أي: بطريق التوديع والمتاركة، وعن الحسن رضي الله عنه: كلمة حلم المؤمنين: {لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} أي: لا نريد مخالطتهم وصحبتهم، ولا نريد مجازاتهم بالباطل على باطلهم. فال الرازيّ: قال قوم: نسخ ذلك بالأمر بالقتال. وهو بعيد. لأن ترك المسافهة مندوب. وإن كان القتال واجباً.
تنبيه:
قال ابن كثير عن سعيد بن جبير: إنها نزلت في سبعين من القسيسين. بعثهم النجاشي. فلما قدموا النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ عليهم: {يَس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يّس: 1 2]، حتى ختمها. فجعلوا يبكون وأسلموا.
وقال محمد بن إسحاق في السيرة: ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة، عشرون رجلاً أو قريب من ذلك من النصارى، حين بلغهم خبره من الحبشة. فوجدوه في المسجد. فجلسوا إليه وكلّموه وسألوه. ورجال من قريش في أنديتهم. حول الكعبة. فلما فرغوا من مساءلة رسول الله صلى الله عليه وسلم عما أرادوا، دعاهم إلى الله تعالى وتلا عليهم القرآن. فلما سمعوا القرآن. فلما سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع. ثم استجابوا لله وآمنوا به، وصدقوه وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره. فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل بن هشام في نفر من قريش. فقالوا لهم: خَيّبكم الله من ركب. بعثكم مَن وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم، لتأتوهم بخير الرجل. فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه فيما قال. ما نعلم ركباً أحمق منكم. أو كما قالوا لهم. فقالوا لهم: سلام عليكم. لا نجاهلكم. لنا ما نحن عليه، ولكم ما أنتم عليه، لم نأل أنفسنا خيراً.
قال: ويقال إن النفر النصارى من أهل نجران. فالله أعلم أي: ذلك كان.
قال: ويقال، والله أعلم، إن فيهم نزلت هذه الآيات: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} إلى قوله: {لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ}.
قال: وسألت الزهري عن الآيات فيمن نزلت؟ قال: ما زلت أسمع من علمائنا أنهن نزلن في النجاشي وأصحابه رضي الله عنهم. والآيات اللاتي في سورة المائدة: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً} [المائدة: 82]، إلى قوله: {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 83].

.تفسير الآيات (56- 58):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} [56- 58].
{إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} أي: لا تقدر أن تدخل في الإسلام كل من أحببت أن يدخل فيه من قومك وغيرهم: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} أي: أن يهديه فيدخله في الإسلام بعنايته: {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} أي: القابلين للهداية. لاطلاعه على استعدادهم وكونهم غير مطبوع على قلوبهم.
تنبيه:
روى البخاري في صحيحه في تفسير هذه الآية عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة. فقال: أي: عم! قل لا إله إلا الله، كلمة أحاجّ لك بها عند الله. فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه، ويعيدانه بتلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: على ملة عبد المطلب. وأبى أن يقول لا إله إلا الله.
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والله! لأستغفرنّ لك ما لم أُنْهَ عنك». فأنزل الله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 113]، وأنزل الله في أبي طالب، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [56].
قال ابن كثير: وهكذا رواه مسلم في صحيحه والترمذي أيضاً من حديث يزيد بن كَيْسان عن أبي حازم، عن أبي هريرة. والإمام أحمد من حديثه أيضاً، وهكذا قال ابن عباس وابن عمر ومجاهد والشعبيّ وقتادة: إنها نزلت في أبي طالب حين عرض عليه الإسلام. انتهى.
وقال ابن حجر في فتح الباري: لم تختلف النقلة في أنها نزلت في أبي طالب. انتهى. وقدمنا مراراً معنى قولهم نزلت الآية في كذا. فانظر المقدمة، وغير موضع بعدها.
ثم ذكر تعالى من تعنتهم، شبهة استروح بها الحارث بن عامر بن نوفل، فيما رواه النسائي، قوله سبحانه: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ} أي: ونخالف العرب: {نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} أي: مكة. فرد عليهم تعالى بقوله: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً} أي: ألم نعصمهم من عدوّهم ونجعل مكانهم حرماً ذا أمَنٍ، لحرمة البيت الحرام، الذي تتناجز العرب حوله وهم آمنون: {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أي: جهلة لا يتفكرون. ولو علموا أن ذلك رزق من عند الله، لعلموا أن الخوف والأمن من عنده، ولما خافوا التخطف إذ آمنوا به وخلعوا أنداده {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} أي: كفرت بها فلم تحفظ حق الله فيها فدمرت: {فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} أي: منهم. إذ لم يخلفهم أحد يتصرف تصرفهم. وموصوف قليلاً المستثنى، إما زمان أي: إلا زماناً قليلاً، إذ لا يسكنها إلا المارّة يوماً أو بعض يوم. وإما مكان أي: إلا مكاناً قليلاً يصح لسكنى البعض، واندثر الباقي. أو مصدر أي: سكناً قليلاً من شؤم معاصيهم.